عيد العافية ....

صفحة الكاتب على فيسبوك

في سالف الزمن كانت أُمّي تقول لنا : العيد عيد العافية " ، فكلما رأتنا نثقل كاهل أبونا بطلبات أضافية لا لزوم لها تدخلت وبأسلوب دبلوماسي مكررة على سمعنا ذات الكلمات " العيد عيد العافية " .

عندما كبرنا وصرنا آباء وعلى أبواب الكهولة أدركنا قيمة كلامها ، فليس هناك نعمة تضاهي العافية ، فما نفع الثوب الجديد لإنسان معتل البدن أو الروح ؟ .

 

وماذا يعني كبش العيد لشخص محطَّم متعب يئن من فرط ما به من أوجاع وأوصاب ؟؟ .

 

ذهبت صباح اليوم إلى مقهى الشاي ، كان رجائي ان التقي بصلاح وعلي وأحمد ومحسن وفيصل وأخرين اعتدت وجوههم في المكان . 

 

أردت فقط مصافحتهم وكي أقول لهم قولة أُمّي : عيدكم عافية ، كلمتين ولا سواها ومن ثم امضي في سبيلي .

وجدت المقهى شبه خالي من رواده ، بالكاد شخصين كهلين رأيتهما يتجاذبان الحديث . اقتربت منهما وسألتهما : أين ذهب القوم ؟ أين صخب وضوضاء أصدقائي ؟ .

 

أجابني أحدهم : واحد الشاي الحليب بنصف ألف ريال ، وأنا معاشي الشهري ٢٨ الف ريال ، يعني أن المقهى سيؤخذ نصفه . 

وأضاف وبصوت مكلوم : أعز رفاقي عندما أراهم يدخلون المقهى كأني لا أعرفهم ، خلاص أيام: انزل شاي على حسابي أنتهت ".

 

عدت إلى البيت حزينا ، شيء ما يوخزني في صدري، يشبه طعنة مدية حادة ولكن من دون دم ينز أو يسيح . 

تساءلت كيف لرجل كهل لا يقدر على دفع قيمة واحد شاي حليب ؛ شراء كسوة أو لحمة العيد ؟ ماذا عساه سيفعل بمعاش لا يكفيه لماء الشرب ؟ .

 

كيف لحكومة أو رئاسة أن تنام أو تلبس كرفتات من جنيف أو تركب سيارات فارهة الواحدة يوازي قيمتها مئة أو مأتي ثور ، وفي وقت النَّاس يسحقهم الغلاء ، وتفتك بهم المسغبة والجائحات والفاقة .

 

في خطبة الجمعة الفائتة قال الخطيب أن الشكر والثناء واجبه ، فإذا ما أردنا آلا الله أن تدوم فينبغي التضرع إليه بكثرة كي لا تزول هذه النعم .  

أحدهم همس في إذني أثناء مغادرتنا الجامع : يبدو أن شيخنا يعيش في كوكب المريخ ، فلو أنه يتجرع مصائبنا الحياتية - وما أكثرها - لربما أدرك أننا أتعس خلق الله .

 

قلت لصاحبي : آه لو أنه قال قولة أُمّي : العيد عيد العافية .. ليتنا تضرعنا لأجل العافية وهي نعمة غالية .. 

في أزمنة كان الناس في عدن قبل أيام العيد يمزحون ويداعبون صغارهم : العيد جانا موه نهبله ، نهبله دجاجة تلعب له " .

اليوم الدجاجة بعشرة وثمانية آلاف ، الرجل المتقاعد الذي وجدته في المقهى يمكنه شراء ديك أو دجاجة ، بثلث معاشه .

كان يشتري به دقيق وزيت وسكر ودواء وماء وكهرباء ودجاج وسمك ولوازم المدرسة والمواصلات والبيت طوال الشهر ، والآن لا يكفي لفنجان شاي او دجاجة تلعب له .

 

أحد الجيران سألني : هل يجوز حلق الذقن أو الشارب ؟ قلت له : الناس ما حصلت فلوس كبش العيد وأنت شغلت نفسك بحلق شعرة الذقن أو العانة ٠٠ 

يا صاحبي ثيران العيد تملأ المكان، إنها أكثر من البشر في السوق ، قلة يشترون وغالبية تعود بخفِّي حُنين .

أصحاب الدولار والريال والدرهم فقط يمكنهم أخذ الثور أو الجمل بما حمل ، أما الغلابى فيكفي أنهم عائشون ولا يسأمون من السؤال عن موعد معاش لا يفي بقيمة كيس دقيق .

 

فلحمة العيد صارت بربع مليون ريال للسهم الواحد فهل تجوز الأضحية على معلم أو جندي أو موظف ؟ فجميعهم لا يزيد معاشهم عن ٥٠ أو ٦٠ الف ريال، طبعًا ، قبل الخصم ..

 

وعلى ذكر كسوة العيد ، كُنَّا ننتظر صباح ذاك اليوم بشوق ولهفة ، ومع بزوغ شعاع الفجر نكون قد لبسنا الثوب الجديد وذهبنا إلى جبانة الصلاة ومعاودة الأقارب وكأننا طاوويس متبخترة بألوانها الزاهية .

 

وحدث أن أحدنا كانت بدلته صغيرة ، ولا وقت للذهاب إلى سوق المدينة ، ظل يبكي طوال يوم العيد ، سمعنا صراخه إلى خارج مسكنه ، كما وسمعنا توسلات أُمّه إليه كي يتوقف عن البكاء . 

قالت له : أبوك سيشتري لك ثياب أحسن من ثيابهم ، وهذه الفلوس اشتري بها طماش من الدكان ..

حاولت مرارًا أن تفهمه أن العيد عيد العافية ، وأن المهم هو لحمة الثور ، لكنه لم يستوعب غير أنه بلا كسوة العيد ، وأنه ليس مثل أقرانه .

كما ولم يدرك بعد أن العافية أهم من الثوب ومن لحمة العيد ، وأنه سيأتي عليه يوم ويفقدهم الثلاثة ؛ العافية والكسوة واللحمة ..

 

محمد علي محسن

مقالات الكاتب